السلام عليكم و رحمة الله
سيدتي ... أروي لك مأساتي , آملا أن ترشديني لحل يساعدني للخروج من أزمتي
الحالية .
أنا عراقي مقيم في دولة أوروبية , تزوجت منذ سنوات من أجنبية بعد قصة حب
طويلة و انجبنت لي ثلاثة بنات كن زهرات حياتي . لما خرجن من مرحلة الطفولة , بدأت
أخشى عليهن من التقاليد الغربية . و أصبحت والدتهن دائمة الشجار معي بخصوص ملابس
البنات أو السماح لهن بالخروج و الاختلاط مع أصدقاء من الجنسين .
تفاقمت المشاكل مع وصول سارة , ابنتي الكبرى لسن المراهقة , فتوالت اتهامات
الأم لي بالتضييق عليها و أن من حقها أن تعيش مثل بقية البنات في سنها , تخرج و
تسهر و تسافر مع أصدقاء من الجنسين . و حينما كنا نتشاجر كانت كثيرا ما تهددني
بأنها ستبلغ الشرطة لأنني أب معقد و مضطرب نفسيا ! و كنت أحاول أن أشرح لها أنني
أفعل ذلك لحماية ابنتي . لكن محاولاتي كلها كانت تبوء بالفشل !
ثم حدث ما لم يكن في الحسبان . هربت ابنتي القاصر من البيت ، و بحثت عنها
عند صديقاتها و في المستشفيات و في كل مكان , دون جدوى . و اكتشفت أن زوجتي على
علم بهروبها لتستقل بحياتها مع شاب في العشرين من عمره ! أحسست أن حياتي تحطمت و
أصبحت أفكر ليل نهار في طريقة لاستعادة سارة . لم أعد قادرا على العمل , أو أنني
أصبحت أخشى على بناتي من أمهم و لم أعد أئتمنها عليهما !
أفكر جديا في الانفصال و استقدام زوجة من العراق لتربية بناتي أو ارسالهما
عند والدتي في بلدتنا الريفية الصغيرة حتى لا يكون مصيرهما مثل مصير سارة . لكن
البنات لا يجدن اللغة العربية و لا يتحملن البقاء في العراق أكثر من اسبوع واحد !
ماذا أفعل لانقاذ بناتي ؟ أشعر أنني مضطرب و أشعر بالعجز عن استخاذ قرارا
سليما ... لذلك لجأت لكم لعلكم ترشدوني لحل يريحني من اليأس الذي استحوذ علي ...
الرد ...
و عليكم السلام
سيدي الفاضل ... أعتقد أن مشكلتك عاشها و يعيشها الكثير ممن انتقلوا للحياة
في الغرب سواء للدراسة أو للعمل , ثم تزوجوا و أنجبوا أطفال حاولوا تربيتهم وفقا لعادات و تقاليد المجتمعات الشرقية . و
غالبا ما يعيش الأبناء- في مثل هذه الظروف – صراعا بين نظام صارم في البيت و
انفتاح كامل في مجتمع له قيم و عادات مختلفة .
و مما زاد الأمر تعقيدا في حالتك , وجود جزء من أجزاء المجتمع الغربي –
متمثلا في الأم ـ بداخل البيت . فلم يعد الصراع بين القيم العائلية و القيم
المجتمعية , بل تحولت أنت الى انسان "رجعي " ينتمي لحضارة " رجعية
متخلفة " , في مواجهة مجتمع بأسره , مشتملا و متضمنا زوجتك و بناتك .
لست بصدد مناقشة قضية الزواج من أجنبية ، فهذا ليس مجاله الآن , لكن دعني
أصارحك بحقيقة هامة : قد تكون مشكلة سارة معقدة بعض الشئ لأن قوانين أغلبية الدول
الأوروبية تكفل للأولاد و البنات فوق 18
سنة حرية الاستقلال بحياتهم، و تكفل للقاصرات و القصر حرية اقامة علاقات كاملة
بالجنس الآخر، طالما العلاقة بالتراضي بين الطرفين . و يتم ايداع القاصرات – في
حالات الخلاف مع الأسرة لأسباب تتعلق بالحرية الشخصية – في دور رعاية خاصة , بل و
يتم أخذ تعهد من ولي الأمر بعدم التعرض لها و عدم المرور من الشارع الذي تقع فيه
الدار !!!
أنصحك بالتحلي بالصبر و أن تترك للزمن حل هذه المشكلة . ففي كثير من
الحالات يكتشف الأبناء أنهم سلكوا الطريق الخطأ و أن حياتهم ازدادت صعوبة . و أن
الرغبة في العناد و اثبات الذات ذهبت بهم أبعد مما كانوا يتخيلون .
أما بالنسبة لبناتك الأصغر سنا , فهناك فرصة كبيرة لتدارك الأمر . لا أنصحك
أن تأخذهما قسرا للحياة في العراق , لأن هذا قد يدفعهما للهروب مثل سارة بل و التضامن
معها في موقفها . عليك اولا مناقشة المشكلة معهما بحكمة و هدوء . اشرح لهما
باستفاضة الضرر الذي سيلحق بها جراء هذا القرار . و أن غالبية البنات حينما تستقل
عن الأسرة في وقت مبكر لا تتمكن من القيام بمسؤوليات البيت بجانب الدراسة ، و قد
يحدث حمل مبكر يجبرها على ترك الدراسة . وأنها لو صارحتك لوافقت على خطبتها لهذا الشاب حتى تصل
للسن المناسبة للزواج . ثم حاول ان تقيم علاقة من الود و التعاطف بينكم , اشرح
لهما أشياء عادة ما تعفل عنها الصغيرات في معظم الأحيان : أن الآباء يكدحون و
يتعبون طيلة حياتهم , ينتظرون اليوم الذي تكبر فيه البنت و يأتي من يستحقها يطلبها
للزواج ، و تقوم الأسرة و الأصدقاء بالاحتفال بهذه المناسبة , و أن الزواج تكريم
للمرأة و حفاظ على حقوقها . بالاضافة لسرعة تغير مشاعر المراهقين فكثيرا ما يرحلون
و يتركون خلفهم صغارا لا يعرفون عنهم شيئا و تتحمل الأم وحدها مسؤولية التربية .
سيكون عليك مهمة احتواء البنات اولا ، بالحنان و الحب تارة ، و بالنصح و
الارشاد تارة أخرى . ابدأ بتعليمهما اللغة العربية ، حدثهما عن حضارة العراق ،
اشرح لهما أن بغداد كانت عاصمة الدولة العباسية ، و أنها بقصورها و مساجدها و
حضاراتها تفوقت على عواصم أوروبا التي كانت تعيش وقتها حروبا طاحنة في ظلام العصور
الوسطى , قبائل يغير بعضها على بعض . اقرأ معهما في كتب التاريخ ، حينما ارسل
الخليفة هارون الرشيد لشارلمان ملك فرنسا أول ساعة رملية فلم يتمكن هو رجال دولته
من تشغيلها ، فأرسل رسولا الى بغداد ليتعلم كيف تعمل !
اجعلهم يفخرون بتاريخ أمتهم و حضارتها . و ذكرهم بأن الفيلسوف هيجل يقول أن
للتاريخ دورات ، اشرح لهما كيف خرجت أوروبا محطمة من الحرب العالمية الثانية و كيف
اعادت بناء نفسها . و أن العرب يحاولون منذ ثورات الربيع العربي النهوض بأوطانهم .
اربطهما بقضايا الأمة ، بعدها اصطحبهما في رحلات قصيرة الى العراق ، تزيد مرة تلو
الأخرى . هناك سيتعلمان الترابط العائلي الذي تفتقده المجتمعات الغربية ، في
الأحزان و الأفراح و الأعياد و المناسبات .
ثم استقدم والدتك للبقاء معك بعض الوقت سيتعلمان منها كثيرا . و تمهل في
مسألة الطلاق لما في ذلك من تأثير على الصغيرات في مرحلة لا يتحملان فيها التشتت و
الاضطراب. و لا أنصحك باختيار زوجة جديدة تحت ضغط الظروف النفسية الحالية فتتعرض و تعرض أسرتك لفشل جديد .
أعرف أن كل ذلك ليس بالمهمة اليسيرة و لكن بالإرادة و العزيمة و الاستعانة
بالله تنجزها بإذن الله...
د. نهال
للتواصل [email protected]
أو الفيس بوك : https://www.facebook.com/hmsatelqlop99/